القراءة وصناعة الكبار فى زمن الدجل الفكري . عبد الرحمن بشير
………………………………………………. ………………………………
هل العقل هو الذي يستحق المدح لذاته ؟ أم يمجد العقل بقدر ما فيه ؟ لماذا لم نجد في القرآن آية واحدة تمجد العقل لذاته ؟ بينما وجدنا المئات من الآيات تمجد العقل كدور ووظيفة .
البشر كلهم أينما كانوا ، ووقتما كانوا ، يملكون مادة العقل بسواء ، ولكن الذي يصنع الفرق استخدام العقل بشكل فعال ، ومن هنا نجد مجتمعا متقدما لأنه عقلاني في حركاته ، ومنهجي في خطواته ، ونجد مجتمعا آخر يعيش وفق متطلبات الغابة ، لأنه استقال عقليا ومنهجيا ، ويعيش في عقلية القطيع ، والكل يجرى وراء العشب بلا تساؤل ، بل قد يذهبون إلى الموت بلا حكمة .
هل ما زال لدينا من يعتقد بأن العقل ضد النقل ؟ وإذا كان الأمر كذلك ، فلماذا دعا القرآن في كثير من آياته إلي استخدام العقل لفهم الكون ، وفهم النصوص كذلك ؟ بل لماذا طالب القرآن الإنسان أن يستخدم العقل في إثبات النبوة المحمدية والدفاع عنها من الشبهات ( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثني وفرادي ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة ) ؟
هل الإيمان نقيض التفكير ؟ وهل المفكر المستقل يذهب إلي الزندقة كما أشيع عندنا في أوقات مختلفة ، وخاصة فى زمن التنويم الحضاري ، وبالتالي إلي جهنم ، وبئس المصير ؟ بينما الغبي الفاقد كل أدوات التفكير يذهب لياخذ مكانه من بين المؤمنين ، وبالتالي إلي الجنة ، فحسنت مستقرا ومقاما .
هل الجنة كما في بعض الأدبيات عندنا نادي الأغبياء ؟ والنار نادي الأذكياء ؟ هل التعمق في الفلسفة ينحو نحو الكفر ؟ بينما التعمق في جمع ما قيل وقال فقط يجعلك رجل دين وعلم ، وبالتالي فأنت من أهل الإيمان .
لماذا يخاف المسلمون - اليوم - وخاصة من أتباع النص من العقل ؟ ومن القراءة الحرة ؟
لماذا نحن أسري لقراءة معينة ؟ لماذا لا نربي الناس علي القراءة العلمية والموضوعية والمنهجية والنقدية ؟ ولماذا لا نري في بلادنا القراءة كثقافة وممارسة حياتية ؟
هل الإسلام يخاف من المواجهة ؟ وهل أعداء ألأسلام يملكون أسلحة فكرية أقوي من أسلحته ؟
لماذا رأينا التنوع في التاريخ الإسلامي أيام مجده بلا خوف ولا خجل ؟ ولماذا نري اليوم التنوع ذاته في الغرب في لحظة تألقه ؟
لماذا وجدنا في تاريخنا ابن رشد في تألقه وهو يخالف ابن تيمية ، ووجدنا ابن رشد وابن تيمية وهما يخالفان الغزالي في منهجه ، ووجدنا مدرسة الرأي إلي جانب مدرسة الأثر ؟
لماذا السلفيون يخافون اليوم من كتب الغزالي ؟ ولماذا العلمانيون يخافون من مواجهة الإسلاميين في ميادين الفكر ؟ ولماذا السلفيون والإخوان يخافون من المدرسة العقلانية ؟ ولماذا الجميع يخاف من رؤي وأفكار الدكتور طارق رمضان ؟ ولماذا الخوف من آراء الدكتور طارق السويدان حتى تم سحب الجنسية الأصلية منه ؟ ولماذا الكل في خوف من الكل ؟
لماذا أعضاء جماعة الدعوة والتبليغ يعيشون في عالمهم الخاص الخالي من العلم والفكر ؟ ولماذا الاستبداد السياسي يحب الجهلة ويدعم ثقافة التجهيل ؟
القراءة الحرة المستقلة الشاملة ضرورة حياتية .
----------------------------------------
في مسيرتي الفكرية رأيت أن أهم نعمة في حياتي تمثلت بعد الإيمان بالقراءة ، فهي التي أخرجتني من ظلمات التيه، وأنقذتني من كهوف الأفكار ، وجعلتني أجد نفسي ذاتا حرة ليست في الذوات ، وإنما وجدت نفسي ذواتا في الذات حتي لا أكون مكررا في الدور ، او مستنسخا في الوظيفة ، بل استفدت من الجميع ، فتوسلت من خلال القراءة أن لا قداسة لفكر ، ولا عصمة لمنهج ، ولا كمال لشخص ، ولا توقف عند محطة تاريخية معينة ، ولا أقبل العيش في الأقفاص كلها ، بل أحب أن أكون حرا ومستقلا ، ولا أقدس إلا الدين الصحيح فقط .
وجدت القراءة في حياتى ضرورة لأهل الفكر والعلم والدعوة والتغيير ، قد تكون حاجتها أشد تأكيدا من حاجة الإنسان إلي الماء والطعام ، لأنهما ضروريان فيزيولوجيا ، بينما القراءة ضرورة فكرية ، وبقاء الإنسان الفيزيولوجي يجعل الماء والطعام ضروريين ، ولكن بقاء الإنسان الفكري والحضاري يحتم عليه فهم الحياة ، ولا فهم لها بلا قراءة منهجية ، وكذلك يحتاج الإنسان إلى قراءة الذات والموضوع بقوة وعمق .
هل عرف البعض سر تفوق الغرب علينا ؟ وهل عرفنا لماذا الغرب لا يعيش في الخيال والأوهام ؟وهل عرفنا لماذا الغرب يخرج من الكبوات سريعا وبأقل الخسائر ؟
السر في كل ذلك هو العقل ، والعقل ليس في الغرب علي حسب الطبيعة الأولي ، فقد تطور من خلال القراءة المنهجية والبحث العلمي .
إن بعض المتعلمين في الغرب منهجيون حين يقرؤون ، وحين يكتبون ، وحين يبحثون ، بل وحين يناقشون ويطرحون أفكارهم ، وهم أحرار حين يكتبون ، بل لديهم جرأة غير عادية فى القول ما يريدون ، ولا يترددون عن البوح بأفكارهم ، ولهذا أعلن أحدهم مثل آلان دونو كتابه ( نظام التفاهة ) .
إن غالبية الباحثين في الغرب يعرفون ماذا يقرأون ؟ وكيف يقرأون ؟ بل ولماذا يقرأون ، لأنهم في الغرب ليسوا أسواقا فقط ، فليست اهتماماتهم محصورة في شراء أفخم السيارات ، وأغلى الملابس ، ولا يتهافتون في الأسواق كتهافت أبناءنا عليها ، حين يملكون شيئا من حطام الدنيا ، ذلك لأن القراءة المنهجية علمت الغالبية منهم التعامل المنهجي مع مفردات الحياة .
كنت فى أضخم مول فى الولايات المتحدة حيث أمارس عادة المشي فيه مع زوجتى فى زمن الشتاء القارس ، فقد مررنا إلى جانب مكتبة تبيع الكتب ، ورأينا حركة غير عادية فيها ، وحينها قررنا الدخول فيها ، فإذا الناس فيها يتنافسون شراء الكتب بنهم ، كما يتنافسون فى شراء الحاجات الضرورية من أمكنتها ، وحينها عرفت سر ّ تفوّقهم علينا .
القراءة وسيلة وهدف .
------------------
الغربيون يقرأون ولكنهم لا يقرأون لذات القراءة ، وكذلك كان المسلمون الأوائل يمارسون عادة القراءة بيد أنهم لم يكونوا يقرأون لذات القراءة ، فالغرب جعل القراءة وسيلة لهدف أسمي ، فقد فهم بأن المجتمع القارئ يستحق الريادة والقيادة ، فالهدف هو الوصول إلي القمة ، وقد تحقق أن أكثر الناس تأثيرا في الحياة هم أكثر الناس قراءة ، وكذلك كنّا يوم أن عرفنا أسرار الحياة .
لماذا يقرأ مسلم اليوم كتبا معينة فقط ؟ هذا إن قرأ ، وما نوعية الكتب التي يقرؤها ؟ ولماذا البعض يملكون مكتبات جميلة وضخمة ، ولكن حين التأمل في ما يقال ، فلا تجد أفكار ثقيلة وهامة .
أين حصيلة هذه الكتب في حياة الأمة ؟ لماذا لا نجد حتي اللحظة من يطرح رؤي مختلفة عن الآخرين ؟ لماذا نجد التشابه المطلق في أفكار الناس ؟ أين الإبداع والتجديد؟ ولماذا يزداد الخوف من التجديد ؟ ألم تبدأ كل حياة جديدة من فكر جديد ؟ ألم تكن نبوة محمد رفضا للواقع البالي ( العربي والكوني ) ؟ لماذا التشبث بالقديم حتي ولو كان منطقيا في نظر الناس ، وليس في نظر الدليل والحجة ؟
ليس من العقل أن نقرأ لأجل القراءة ، وأن نتعلم لأجل التعلم ، وأن ندرس الجامعات والمعاهد العليا لأجل الشهادات ، وأن نحمل ألقابا علمية جوفاء بلا عطاء ، المهم أن نكون رقما في الحياة ، وان نتحول من عالم جمع المعلومات إلي عالم غربلتها ، لأجل إنتاج عالمنا المعرفي ، وأن نمارس النقد لأفكارنا مهما بدت جميلة ، وأن نقفه أن الحياة ليست كما نراها ، بل هي كما يجب أن تكون .
لا مستقبل لأمة لا تقرأ .
-------------------
في عالم الغرب ، الناس في غرف الانتظار يقرأون ، وفي صالات المطارات والقطارات يعيشون مع الكتب والصحف والمجلات ، وفي حالات السفر والحضر يتعاملون مع عالم الأفكار حتى ولو كانوا صغارا ، ونحن في المطاعم والمقاهي والمقايل نرفع أصواتنا ، لأننا صرنا ظواهر صوتية ، ونحسن الكلام ، وقد نقول ما لا نعي ، ونتكلم ونحن لا ندري ماذا نريد من كلامنا .
في عالم الغرب ، الحكام لديهم مؤلفات تغزو الأسواق الفكرية ، ولديهم حضور في عالم الفكر ، ويتم كل ذلك بعد أن قرأوا المئات من الكتب والرسائل والمقالات العلمية ، ولدينا حكام ليس باستطاعتهم تكوين جملة مفيدة في أية لغة عالمية ، أو محلية ، وهذه من عجائب الدنيا .
في عالم الغرب ، المرأة تقرأ لطفلها حين الرضاعة ، وما قبل النوم القصص من الكتب ، وما زالت المرأة لدينا تغني لطفلها حين ترضعه ، وما قبل النوم ، فيصبح بهذا الطفل في الغرب باحثا وقارئا ، ويصير الطفل عندنا حين يكبر ثرثارا في الشوارع .
في عالم الغرب ، المدرسة تعلم الطفل منهجية القراءة منذ بداية نعومة أظفاره ، ويتعلّم منها كيف يقرأ ؟ وما الهدف من القراءة ؟ والمدرسة في عالمنا المنكوب تعلم الطفل مبادئ الكتابة والقراءة من خلال عملية التلقين القاتلة ، فهو يحفظ ما يقال له ، ولهذا يعدّ الطفل في الدول المتقدمة للبحث ، بينما الطفل لدينا يتخرج من مدرسته شبه أمي ، ويعرف فقط أبجديات المعرفة فقط .
هل أولادنا ، وهم بهذه المستويات يملكون أدوات التنافس في هذه اللحظات الحرجة ؟ إنني لا أشك في أن المستقبل كل المستقبل لمن يقرأ أكثر ، ولكني مع كل ذلك أؤكد بأن السر ليس في الكمية المقروءة ، وإنما في المنهجية ، فليس من الحكمة أن تكون في عالم اليوم حاطب ليل .
لا شك في أن الأهمية تكمن في القراءة الشاملة والواسعة ، ولكن أن لا تكون الكمية علي حساب الكيف ، وان تكون المنهجية هي التي تقود العملية ، ولهذا كان من الحكمة الخيار في ماذا تقرأ ؟
إن الوقت قصير ، والحياة فرصة ، وهي ليست مجالا للكسالي والعجزة ، فلا تجلس مع هؤلاء في مجالسهم ، ولا تتردد في المقاهي إلا للضرورة ، فهي تسرق من حياتك أثمن ما تملك ، فكم أنت تحتاج إلي الوقت الثمين لأجل أن تقرأ ، فلا شك عندي في أنك مهم ، ولكنك لن تكون كذلك بلا قراءة ، فكم رأيت في حياتي أذكياء خرجوا من الحياة سريعا ، لأنهم تَرَكُوا لعقولهم الهوي ، فكم أنت محتاج إلي أن تقرأ المهم في عالم الفكر ، فاحذر من ان يضيع وقتك الثمين في الحديث عن اللغو ( والذين هم عن اللغو معرضون ) ، فهذا اللغو يجب أن يكون في سلة المهملات .
وكم كان القرآن صادقا وصريحا حين قال : ( إقرأ وربك الأكرم ) وكم كان الدكتور عبد الكريم بكار جريئا حين ذكر بأن أمة إقرأ باتت لا تقرأ ، وكم كان موشي دايان موضوعيا حين قال : العرب لا يقرؤون ، فما زالت الأمة لا تقرأ ، وما زال البون شاسعا بيننا وبين القوم ، فهل من توبة صادقة من هذه الحماقة ؟ وهل من أوبة من هذه الغثائية الفكرية ؟ وهل من عزيمة من الأجيال الجديدة لأجل تجديد الحيوية في الشباب لنعيد للفكر دوره في صناعة الحياة من خلال القراءة النوعية والتجديدية ؟
وصايا ثلاثة :
١- لا تقرأ لأجل القراءة ، ولا تقرأ لأن الكتاب جميل فى الشكل ، وكذلك لا تقرأ ، لأن صاحب الكتاب معروف لديك ، فاقرأ لأجل العلم والمعرفة .
٢- اقرأ الجديد ، والجديد ليس دائما مفيد ، ولهذا ابحث فى عالم الكتب المفيد ، وأن تحصل المفيد ليس سهلا ، ولكن فى زمن العولمة ، أصبح الوصول إلى مكامن المعرفة سهلا .
٣- تحرَر العيش فى القفص ، اقرأ بنهم ، ولكن لا تخف من قراءة الأفكار الكبيرة ، فالأفكار العظيمة تصنع الكبار ، والأفكار الصغيرة تصنع المراهقين الفكريين ، فعش كبيرا فى زمن المراهقة الفكرية .




